المنهج التربوي في طريقة القاسمي
 

الشيخ المربي "الولي والولاية" 

الحمد لله رب العالمين القائل في محكم التنزيل: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون"، سورة يونس:62-63. وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين والقائل: فيما يرويه عن ربه عز وجل: "من عادى لي وليا فقد آذنته الحرب" –رواه البخاري في صحيحه-.

وفي شرح للآية المذكورة "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ"، الأولياء أضافهم الله سبحانه وتعالى لنفسه تشريفا لهم، لأنهم يستحقون هذا التشريف وهذا الثناء، وهذه البشرى بشّر بها الحق أولياءه في الدنيا والآخرة، لأنهم قوم تركوا كلَّ ما نهى الله عنه وقاموا بأوامره خير قيام، فالولي عبد حُفظت بشريته عن المخالفات، وصار قلبه خاليا من رؤية المكونات، لا يعرف غير ربه ولا يطلب كرامة، قائم بالحق للحق، منزّه عن السوى، رحيم بخلق الله، عفو صفوح، انفرد لله وبالله، قوي إيمانه فلا تأخذه في الله لومة لائم.

وأراد الله سبحانه أن يبين منزلة الأولياء فقال: "لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ"، أي لا يترك بهم بلاء في هذه الدار يمس إيمانهم أو إسلامهم أو عقائدهم، فهم لا خوف عليهم في هذه الدار ولا في القبر ولا عند القيامة. "وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"، أي لا يحزنون على خلفهم، فإن الملائكة تقول له عند الموت: "يا عبد الله إنّ الله يبشرك بالجنة، ولا تحزن على من خلفك".

ولا يُسمى الولي عند الله وليا إلا إذا قام بأمر الله، وانتهى عما نهاه الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، والولي محفوظ، والنتيجة واحدة بالنسبة للنبي والولي.

أما معصية سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام لربه عز وجل، فقد كانت لحكمة معينة وهي إعمار الأرض.

فالولاية حصن من دخل فيه، فإنه يصير محفوظا، لا يدنو منه الشيطان ويصير غنيا لا يحتاج إلى الخلق.

قال الله سبحانه وتعالى: "وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين"، سورة الأعراف 196، فمن تولاه الله لا يحوجه إلى أحد، يرزقه من غير سبب، وييسر له أمره، فهو سائر إلى ربه أينما كان، لا يدنو الشيطان من حضرته، ولا يفارق حفظ الله غيابه، فهو ينصر الله وينصره الله سبحانه وتعالى، فهو القائل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" سورة محمد:7.

والأولياء هم أئمة الهدى الذين يعالجون أمراض النفوس الخفية بسر إلهي يودعه الله سبحانه وتعالى في أرواحهم الصافية، ليكونوا أئمة للمتقين ومنارة للسالكين، قال الله سبحانه وتعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" سورة يوسف 108.

وهذا السر يكشفون به ما غاب عن غيرهم مما شاء الله عز وجل أن يكشف لهم من العلم والمعرفة، وهذا السر يعاونهم فيما أقامهم الله جل جلاله فيه من تربية المريدين تربية صحيحة في جنب الله سبحانه وتعالى، تخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.

فهنالك إيحاءات رحمانية، وهذا يكون وحيا لساداتنا الأنبياء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة والتسليم، ويكون إلهاما للأولياء الصالحين من أهل اليقين لقول الله سبحانه وتعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" سورة القصص 7.

يقول الإمام الغزالي: "إنّ العلم اللدني الغيبي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة، وصار علم الوحي إرث الأنبياء، وحق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأغلق الله سبحانه وتعالى باب الوحي من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان علمه أشرف وأكمل وأقوى، لأنه حصل على التعلم الرباني، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني، استنادا لقول الله سبحانه وتعالى: "عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى" سورة النجم:5.

أما الإلهام، فهو أثر الوحي، فإن الوحي هو تصريح بالأمر الغيبي والإلهام هو تعريضه، والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن طريق الإلهام يسمى لدنيا.

فالعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين البارئ جل جلاله، وإنما هو كالضوء من سراج الغيب، يقع على قلب صافٍ فارغ لطيف، وهذا العلم يكون لأهل النبوة والولاية، كما كان للخضر عليه السلام، حيث أخبر عنه الله سبحانه وتعالى فقال: "عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" سورة الكهف:65.

وقال سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "أدخلت لساني في فمي، فانفتح في قلبي ألف باب من العلم، مع كل باب ألف باب"، وقال: "لو وُضعت لي وسادة وجلست عليها لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم.

والإلهام يكون نفث في الروع، كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري، ولا يعرف صاحبه كيف حصل له. فالوحي هو حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء.

وخلاصة القول في ذلك: إنّ الوحي عن طريق سيدنا جبريل عليه السلام انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر إلهاما لأولياء الله سبحانه وتعالى. فالولي هو الذي تولاه الله سبحانه وتعالى برحمته، وحفّه بعنايته ولطفه.


تلقي الإرشاد

الإرشاد هو عبارة عن توجيه المريدين وتعليمهم حسب نهج الكتاب والسُّنة.

إنّ طريقتنا، طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة؛ على خط مستقيم لا اعوجاج فيه، إذ قامت على الآثار والأدلة النقلية والعقلية.

إنّ رجال السند جميعهم مرشدون، ومن علامات إرشادهم متابعة أوامر الشرع الحنيف، فليس منهم من يخالف الشرع الشريف، وليس منهم من يخالف الكتاب والسنة.

والإرشاد من ربّ العباد، وهو للقلب الأنظف، فهو ليس بكثرة علوم، ولا من يدعي المنزلة والجاه، فمن ادعى الولاية لا يشم رائحة الإخلاص، ومن أحب عند الناس أن يُعرف، فعند الله سبحانه وتعالى لا يعرف.


كيفية اختيار الشيخ المربي

تبدأ التساؤلات والحيرة على وجوه المريدين في كيفية اختيار الشيخ المربي "الولي"، فمن هو الذي سيتولى أمر إرشادهم ويكون لهم دليلا إلى الله سبحانه وتعالى؟ من سيبايعون؟ تساؤلات كثيرة تدور في أذهان المريدين. والوصول إلى تعيين المرشد يتم بالآتي:

- نور يتجه إلى قلب المريد فيؤكده، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يقذف في قلب المريد أنّ الشيخ هو فلان.

- عن طريق محبة صادقة تقدح في قلب المريد الصادق دالة على الشيخ المربي، ويستدل لذلك بالآية الكريمة: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" سورة الفتح:4، فالسكينة هي المحبة.

بعد ظهور إحدى الملامح أو الدلائل التي ذُكرت يتجه جميع المريدين إلى شيخهم فرحين به، يبايعونه على أنّ الطاعة تجمعهم والمعصية تفرقهم.

إن هؤلاء الأولياء هم أدلاء الخلق على الله سبحانه وتعالى وطاعته، فهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، لأنّ مرافقتهم هي العلاج العملي الفعال لإصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، وترسيخ الإيمان، وغرس العقيدة، فإنّ هذه الأمور لا تنال بقراءة الكتب، إنما هي خصال عملية وجدانية تُقتبس بالإقتداء، "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" سورة الأنعام:90.

ومعلوم أنّ المرء لا يرى عيوب وجهه إلا بمرآة صافية مستوية تكشف له عن حقيقة حاله، فكذلك لا بد للمؤمن من أخ مؤمن مخلص ناصح صادق أحسن منه حالا، وأقوم خلقا، وأقوى إيمانا، يصاحبه ويلازمه، فيريه عيوبه النفسية، ويكشف له عن خفايا أمراضه القلبية، إما بقوله وإما بحاله.

لهذا كان من المفيد عمليا تزكية النفوس والتخلص من عِللها على يد مرشد كامل مأذون بالإرشاد، قد ورث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والتقوى وأهلية التزكية والتوجيه.

فمن مشاهير العلماء، الذين كان لهم شيوخ الإمام الغزالي، إذ كان شيخه هو محمد الباذغاني، والعز بن عبد السلام، فقد كان شيخه أبا الحسن الشاذلي.


البيعة ومشروعيتها في الإسلام

البيعة هي التوبة الصادقة والعزم على طاعة الله على أكمل وجه لتطهير النفس من الشوائب، ولا يكون ذلك إلا عن طريق مرشد عارف بالله العظيم.

قال الله سبحانه وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"، سورة الفتح:10. وقال الله سبحانه وتعالى: "وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً"، سورة الإسراء:34. وقال: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"، سورة الأحزاب:23.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" –رواه مسلم في صحيحه-، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" –رواه البخاري في صحيحه-، ذلك بأنّ النور المحمدي لم يُرفع بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، بل انتقل إلى ورثته من الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم، والتابعين من بعدهم جيلا بعد جيل، فما زال هذا النور ينتقل بين أولياء الله والعارفين به، والمتمسك بهم سائر على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصادق مع أحدهم صادق مع الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى بعبده خيرا قيّض له حالا يسوقه إلى عارف بالله عز وجل، فلا بد له من مرشد يصل به إلى معرفة ذي العزة والجبروت، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا" سورة الكهف:17. وقال الله سبحانه وتعالى: "وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا" سورة البقرة:189. فيتضح من خلال الآية الكريمة أننا لا نستطيع دخول البيت إلا عن طريق مدخله، وكذلك دخول الجنة والفوز بالآخرة لا يتم الحصول عليهما إلا عن طريق شيخ ومرشد عارف بالله يقوم على تنقية نفوس مريديه من الشوائب والرذائل.

وإذا أراد الله عز وجل، بعبده خيرا بصَّره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخفَ عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، لكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوبه، فليجلس بين يدي شيخ بصير ومطلع على خفايا الآفات، ويحكّمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته، فيعرفه عيوب نفسه ويعرّفه أيضا بطريق العلاج، فينظر بقرينة الحال إلى باطنه، ليتفطن إلى أخلاقه وأمراض قلبه.

وعلماء الباطن هم علماء الحقيقة، لتمسكهم بالتقوى والاشتغال بها على الوجه المراد، حيث قال الله سبحانه وتعالى في حقهم: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" سورة العنكبوت:69. وقال الله سبحانه وتعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا" سورة الجنّ:16.

وقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء وحتى من لم يحتلم، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك" –رواه البخاري في صحيحه-.

أما عن بيعة النساء، فعن أميمة بنت رقيقة قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه، فقلت: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" –رواه البيهقي في السنن الكبرى-.

وقد نهج الصحابة رضوان الله عليهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم طريقة البيعة وأخذ العهد، وكانت بيعة أبي بكر رضي وبيعة عمر رضي الله عنهما كبيعة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم نهج الوُرّاث من مرشدي الصوفية منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في أخذ العهد في كل عصر.


صورة البيعة في طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة

أما صورة البيعة عند مشايخ طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة فهي أن يجلس الشيخ جاثيا على ركبتيه والمريد أمامه كذلك، ثم يضع الشيخ يده اليمنى في يد المريد اليمنى ثم يضع الشيخ يده اليسرى بين كتفي المريد، ويقرأ هو والمريد الفاتحة ثلاث مرات، ثم يقول الشيخ والمريد يردد خلفه: أعوذ بالله من الشيطان، الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله، وعلى ملة الصادق رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه (ثلاث مرات)، تُبت إلى الله، ورجعت إلى الله، تبت إلى الله توبة نصوحا، لا أنقض عقدها أبدا، والله على ما أقول وكيل، رضيت بالله تعالى ربّا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبشيخك شيخا، ودليلا إلى الله سبحانه وتعالى، عاهدتك بالله العظيم على أنّ الطاعة تجمعنا والمعصية تفرّقنا، والله على ما أقول وكيل.

ثم يقول الشيخ للمريد: أغمض عينيك واسمع مني "لا إله إلا الله" ثلاث مرات، ثم قل أنت "لا إله إلا الله" ثلاث مرات، وأنا أسمع.

بعد فراغهما يقول الشيخ: لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا وصدقا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (سورة الفتح:10)، "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (سورة الفتح:15)، ويكرر "وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (ثلاثا)، "وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" (سورة الإسراء:34)، "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" (سورة النحل:91)، "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" (سورة إبراهيم:27) يكررها ثلاثا، ثم يقول الشيخ: أجزتك في طريقتنا طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة وأذنتك بقراءة أورادها كما أجازني وأذنني بذلك حضرة سيدنا إجازة لنفسك قبلت؟ فيقول المريد: قبلت، ثم يقرأ الفاتحة، ويوصيه وأن يداوم على حضور الأوراد، والصلوات مع الجماعة، وأن يداوم على الذكر بالاسم الجامع وهو "الله" مع نهاية الورد بسره، سواء كان قائما أو قاعدا، سفرا أو حضرا، ويتلو عليه قوله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا" (سورة الأحزاب:41)، "وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ" (سورة الأحزاب:35)، إلى غير ذلك من الآيات.

إنّ أصل صورة البيعة لدى طريقة القاسمي الخلوتية ما ورد عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى وأسهلها، فقال له: "يا علي، عليك بمداومة ذكر الله عز وجل سرا وجهرا"، فقال سيدنا علي كرم الله وجهه: "كلُّ الناس ذاكرون يا رسول الله، وإنما أريد أن تخصني بشيء"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه يا علي، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله، الله"، ثم قال سيدنا علي رضي الله عنه: "كيف أذكر يا رسول الله؟"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغمض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات، ثم قل أنت لا إله إلا الله ثلاث مرات وأنا أسمع"، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ومدّ صوته وهو مغمض عينيه وقال "لا إله إلا الله" ثلاث مرات وعلي يسمع، ثم إنّ عليا رفع رأسه ومد صوته وهو مغمض عينيه وقال "لا إله إلا الله" ثلاث مرات والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع.

إنّ للتلقين وأخذ العهد فوائد عديدة وحكما بالغة، منها ارتباط القلوب بعضها ببعض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى الله عز وجل، وأقلّ ما يحصل للمريد الصادق إذا دخل سلسلة القوم بالتلقين أن يكون إذا حرك حلقة نفسه تجاوبه حلقات السلسلة، وهي أرواح الأولياء من شيخه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ربه عز وجل، ومن لم يدخل في طريقهم بالتلقين فهو غير معدود منهم.

ومما سبق يتبين أنّ أخذ العهد (البيعة) تناقله المسلمون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فوصل إلينا محققا مسلسلا مسجلا.

هذا وانّ التجربة العملية هي الدليل الأكبر على ما يثمره أخذ العهد من نتائج طيبة وآثار حميدة، ولهذا اعتصم به السلف وورثه عنهم صالحو الخلف وسار عليه جمهور الأمة.


آداب المريد مع شيخه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" –رواه الإمام أحمد-، فعلى المريد أن يتحلى بآداب السلوك، وأن يتعامل مع شيخه وإخوانه حتى يستطيع الوصول إلى ملك الملوك، فمن هذه الآداب:

- التسليم والانقياد لشيخه، وأن يعتقد أن لا مرشد له أفضل منه على وجه الأرض، وأن يعتقد أنه مطلع على جميع أحواله الظاهرة والباطنة بإذن الله، وأن لا يذكره باسمه المجرد.

- تقديم شيخه على والده واجب، ولكل بر جالب.

أقدم أستاذي على حق والدي         وإن نالني من والدي العز والشرف

فذاك مربي الروح والروح جوهر        وهذا مربي الجسم والجسم من صدف

ولم يبلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بالاجتماع مع المشايخ، والأخذ عنهم، وملازمة الأدب معهم ودوام خدمتهم، ومن صحبهم على غير طريق الاحترام، حرم فوائدهم وبركات نظرهم.

- ألا يعلو صوت المريد على صوت شيخه، وألا يناديه من وراء الحجرات. قال الله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" (سورة الحجرات:2)، وقال الله عز وجل: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" (سورة الحجرات:4). وألا يقاطع حديثه، ولا يتكلم أثناء جلوسه إلا أن يتوجه إليه بسؤال على سبيل الاستفسار فقط، كما أنه يجب ألا يسير أمام شيخه أثناء مرافقته والسير معه.

- على المريد أن يستشير شيخه في جميع الأمور الهامة، فما خاب من استخار ولا ندم من استشار.

- يجب عليه ألا يلتفت لشيخ غير شيخه الذي ارتضاه مربيا، ويعلق فكره فيه،  فلربما اعتقد أن هذا الشيخ أفضل وأعلم من شيخه، فيقع في عناء كبير يؤدي إلى حرمانه السير والوصول إلى الله عز وجل.

- ألا يعترض على شيخه مطلقا في القول والعمل، وفي السر والعلانية، لأنّ الشيخ قد أكرمه الله بعلم لدني ومعرفة ودراية تفوق مدارك المريدين، وليكن شأنه في ذلك الإيمان والرضا وعدم الشك والارتياب، وهذا لا يمنع المريد من الاستفسار والتعلم من شيخه دون أن يكون هدفه الاعتراض والتعالم.

- أن يستأذنه قبل انصرافه، لقول الله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ" (سورة النور:62).

- الاستماع إلى مجلس العلم من الشيخ العارف بالله، حيث قال بعض العارفين: "من جالس هذه الطائفة ولم يتأدب معهم سلبه الله نور الإيمان"، وقال الجنيد رضي الله عنه: "من حُرم احترام المشايخ ابتلاه الله بالمقت بين العباد".

- إن الآداب التي يجب أن يلتزم بها المريد حتى تعمّه البركة في الدين والآخرة كثيرة، إلا أننا اقتصرنا على بعضها، ومن أراد الاستزادة فعليه الرجوع إلى المصادر التي تتعرض لذلك.


المصدر: كتاب "أضواء على طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة".